المحاكمة الالكترونية مخالفة للدستور

عمان1:بقلم المحامي فاروق الكيلاني/ رئيس المجلس القضائي الاسبق
صدر مؤخراَ أمر الدفاع رقم ۲۱ لسنة ۲۰۲۰ ينص على وضع اجراءات الكترونية لتنظيم اجراءات المحاكم في الدولة وصدر استنادا لهذا الأمر تعليمات توضح نصوص هذا الأمر المخالف للدستور ومخالفة هذا الأمر والتعليمات التي صدرت استنادا إليه للدستور واضحة كما يلي :
1. عدم دستورية أمر الدفاع رقم ۲۰۲۰/۲۱ إن أمر الدفاع رقم ۲۰۲۰/۲۱ مخالف للدستور إذ أنه صادر استنادا للمادة 3 من قانون الدفاع التي تنص على ان ( يناط تطبيق هذا القانون برئيس الوزراء لاتخاذ التدابير والإجراءات الضرورية لتأمين السلامة العامة والدفاع عن المملكة دون التقيد بأحكام القوانين العادية المعمول بها) .
فهذه المادة اجازت لرئيس الوزراء تطبيق أحكام القانون والتطبيق يعني تنفيذ أحكامه وليس تعديلها وأمر الدفاع رقم ۲۱ لسنة ۲۰۲۰ نص على مجموعه من القواعد التشريعية التي لا تعتبر تنفيذا لأحكام قانون الدفاع وانما تعديل لها إذ أنها قواعد تعدل أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية ولا تتعلق بالأحكام التي نص عليها قانون الدفاع رقم 13 لسنة ۹۲ وتعديل القوانين لا يجوز أن يتم بأمر دفاع وفضلا عن ذلك فإن أمر الدفاع المشار اليه بالقواعد التي نص عليها يعتبر تدخلا بأعمال السلطة القضائية فهو في المادة ۲ ينص على وقف العمل في المحاكم النظامية وتأجيل الجلسات فيها لغاية ۲۰۲۰/۱۱/۲۶ وهو نص يشكل تدخلا سافراَ بأعمال المحاكم لا يملكه لا أمر الدفاع ولا قانون الدفاع رقم 13 لسنة ۹۲ اذ ان عبارة (دون التقيد بأحكام القوانين العادية المعمول بها) الواردة بالمادة 3 من أمر الدفاع المشار اليه هي عبارة مخالفة لأحكام الدستور اذ أن المحاكم مستقلة ولا يجوز التدخل بشؤونها لا بأوامر دفاع ولا بقانون الدفاع لان هذا الاستقلال ورد بالمادة ۹۷ من الدستور ولا يجوز لأية أداة تشريعية أن تعدل أحكام الدستور ولذلك كان نص المادة 3 المشار اليه مخالف لأحكام الدستور كما أن حق التقاضي هو من طبيعة دستورية فلا يملك أمر الدفاع ولا قانون الدفاع وقف العمل بأعمال المحاكم او حرمان المواطنين من اللجوء الى القضاء ولو لفترة محدودة لان الحقوق ذات الطبيعة الدستورية لا يجوز لأية أداه أدنى من الدستور ان تمسها بالتعديل او الانتقاص او الوقف .
ولان المادة 101 من الدستور تنص صراحة على أن المحاكم مصونه من التدخل في شؤونها .وهذه العبارة تعني أنه ليس لأية سلطة أن تتدخل في اجراءات المحاكم ولا أن تعدل فيها لا بأمر دفاع ولا بقانون دفاع لأن النص الدستوري لا يجوز تعديله الا بنص دستوري فهو اعلى الأدوات التشريعية في الدولة ولان المادة 100 من الدستور تنص صراحة على أن المحاكم مفتوحة للجميع فلا تملك أية جهة او سلطة بموجب أمر دفاع او قانون دفاع ان تغلق ابواب المحاكم كما أن مبدأ استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية يقضي بأنه لا يجوز لأي فرد من افراد السلطة التنفيذية مهما علت منزلته أن يتدخل في اجراءات المحاكم او يصدر قرارات او تعليمات تنظم هذه الاجراءات او تضع قيودا على كيفية اقامة الدعوى او السير فيها.
٢. المحاكمة عن بعد مخالفة للمادة ۳/۱۰۱ من الدستور تنص المادة ۳/۱۰۱ من الدستور على ما يلي ( جلسات المحاكم علنية إلا إذا قررت المحكمة أن تكون سرية مراعاة للنظام العام او محافظة على الآداب وفي جميع الأحوال يكون النطق بالحكم في جلسة علنية) .
ومعنى علنية المحاكمة الواردة بهذا النص الدستوري فتح قاعة المحاكمة للجمهور والخصوم فيكون من حق كل انسان ان يشهد المحاكمة وكيفية اجراءاتها ولذلك فان المحاكمة (عن بعد) التي وردت بأمر الدفاع مخالفة لهذا النص الدستوري الذي يقضي بضرورة حضور كافة الخصوم أمام المحكمة الان العمل القضائي يجب ان يتميز بالعلنية والوضوح بحضور الخصوم ووكلائهم والجمهور اجراءات المحاكمة.
الان المحاكمة عن بعد تعني محاكمة المتهم وهو موجود في مركز الاصلاح ولا يحضر قاعة المحاكمة ويتم تصويره ومحاكمته بظهور صورته فقط وهو أمر مخالف الأحكام المادة ۳/۱۰۱ من الدستور إذ تعتبر علانية المحاكمة ضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم اذ ان القضاة يخشون المساس بالحريات والحقوق الشخصية للخصوم عندما يعملون علانية أمام الناس، وقد لا يجدون نفس الحرج اذا كانت المحاكمة سرية دون رقابة فسرية المحاكمة هي قيد ثقيل على حقوق الأفراد وحرياتهم فليس أشد خطوره على هذه الحقوق والحريات من اجراء المحاكمة دون حضور الخصوم او الجمهور وليس اشد خطرا على الحريات الفردية من أن تجري المحاكمات في الغرف المغلقة بحيث لا يعرف الناس كيف تصدر الأحكام وكيف تناقش الأدلة .
فالقضاء يجب أن يكون ضمانة فعلية للحقوق والحريات وليس مجرد ضمانة نظرية نص عليها الدستور وحتى يكون ضمانة فعلية يجب أن يكون عمله فصل المنازعات بين الأفراد وتحقيق العدالة في وضح النهار فلم يعد من الممكن في القرن العشرين قبول اساليب العصور الغابرة في التحقيق والمحاكمة حيث كانت المحاكمات تجري في غرف مظلمة دون أن يعلم أحد بحقيقة الدعوى وقوة الأدلة لقد أصبحت علانية المحاكمة اليوم من حقوق الأفراد التي تنص عليها الدساتير الديمقراطية .

وهذه الحقوق اصبحت جزءا من الضمير العالمي والوجدان الإنساني كما يقول الفقهاء بحيث لم يعد من الجائز انكارها. لقد قضى الزحف المستمر للأفكار الديمقراطية وتعميقها على المفاهيم المتخلفة في كيفية تطبيق العدالة وفتح الباب واسعة لارساء دعائم القواعد الأصولية التي تصون حريات المتهمين وحقوقهم في كافة المحاكمات حتى أصبحت هذه القواعد مقياسة يقاس به تقدم الدول ورقيها الحضاري . وعلانية المحاكمة ضمانة هامة من ضمانات المحاكمة العادلة فلا يمكن تصور محاكمة عادلة تتم جميع اجراءاتهما دون حضور الخصوم او الجمهور فقد انقضى ذلك العهد الذي كانت المحاكمة تعتبر فيه سرا من الأسرار يحظر على الناس معرفتها والاطلاع على اجراءاتها . لقد اصبحت علانية المحاكمة حق من حقوق الإنسان الأساسية ودعامة الدساتير الديمقراطية إن هذه الأهمية لعلانية المحاكمة هي التي جعلت مختلف الدول تحرص على النص عليها في تشريعاتها وتحيطها بهالة من الاحترام والتقديس.إذ أن العلانية تساعد على تحقيق العدالة فهي تدعو المحكمة الى الالتزام بحكم القانون وعدم التمييز بالمعاملة بين الأفراد فعندما تجد المحكمة نفسها تحت رقابة الجمهور تكون أكثر دقة في تطبيق القانون واكثر حرصا على سلامة الاجراءات ونزاهة الأحكام .
والسند السياسي لمبدأ علانية المحاكمة هو أن علانية المحاكمة تعني اشراك الشعب في الاطلاع على المحاكمات وكيف تقوم المحاكم بإصدار الأحكام على الأفراد وكيف تفصل في القضايا حتى يطمأن الناس الى عدالة الأحكام في القضاء فالمحاكمة في كافة الأنظمة القضائية في العالم لم تعد أمرا يهم صاحب الدعوی أو المتهم بل أصبحت تهم الرأي العام. إن المحاكمات السرية التي كانت طابع الأنظمة القضائية القديمة ووليدة العصور المظلمة وأحد مظاهر الاستبداد السياسي تحطمت اليوم أمام الأنظمة الديمقراطية وإعلاء حقوق التقاضي معنى ذلك أن المحاكمة ليست أمرا خاصا يدور بين المتهم والمحكمة بل أنها تهم المجتمع بأسره فيجب أن يعرف الخصوم والجمهور كيف تدار اجراءات المحاكمة وكيف تناقش الأدلة وكيف تصدر الأحكام .
٣. مخالفة المادة 103 من الدستور نص أمر الدفاع المشار اليه على مجموعة من الاجراءات التي اعتبر انها تسري على الدعاوي الحقوقية أمام المحاكم النظامية تتعلق بالتبليغات وتسجيل الدعاوی الكترونية وكيفية دفع الرسوم عن الدعاوى الكترونية وتقديم اللوائح أمام المحاكم واستخدام تقنيات الاتصال المرئي والمسموع في عدة حالات واستجواب الخصوم.وكل هذه الاجراءات مخالفة للدستور اذ لا يجوز لأمر الدفاع أن ينظمها او يعدل في أحكامها التي وردت بقانون أصول المحاكمات المدنية عملا بأحكام ۱۰۳ من الدستور تنص المادة 103 من الدستور على ما يلي : ( تمارس المحاكم النظامية اختصاصها في القضاء الحقوقي والجزائي وفق أحكام القوانين النافذة المفعول في المملكة) . بموجب هذا النص فان المحاكم النظامية تطبق في اجراءاتها أحكام القوانين النافذه ولا يجوز لها أن تطبق في اجراءاتها (أوامر الدفاع فهي ملزمة بتطبيق القوانين النافذة) عملا بهذا النص الدستوري لذلك فإن ما ورد بأمر الدفاع رقم ۲۱ السنة ۲۰۲۰ في تنظيم اجراءات المحاكمة مخالف للدستور ولا يجوز اللجوء اليه .

والمحاكمة الالكترونية التي تتم عن طريق ضغط الازرار لا يعرفها اي نظام قضائي في العالم ولم تجد تطبيقا لها الا في النظام الأردني رغم مخالفتها للدستور صراحة إذ أن المحاكمة بموجب الدستور الأردني يجب أن تتم وفق القوانين النافذه عملا بالمادة 103 من الدستور وهذه القوانين لا تعرف العدالة الالكترونية التي تتم عن طريق ضغط الازرار وتحريك الصور أن الأردن وهو يدخل عصر الدمقراطية وهو عصر جديد له قسماته المغايرة بحكم تغيير ملامح الزمان وهو عصر يقوم على إلغاء الحكم الفردي وبناء الدمقراطية السليمة التي تبينها وتغذيها وتعطيها الشرعية مؤسسات واعية لا يجوز أن يقدم بأوامر الدفاع على الاعتداء على السلطة القضائية والتدخل في شؤونها والاعتداء على أحكام الدستور مهما كانت الدوافع لذلك ، فاستقلال هذه السلطة يمثل أهم المعاقل القانونية التي تذود عن حريات المواطنين وحقوقهم فيؤدي لكفالة الطمأنينة في نفوس المواطنين فاذا فقدت الأمة استقلال القضاء فقدت كل شيء .

زر الذهاب إلى الأعلى