مـــدفـــع رمضــانـــــي

عمان 1 : في مدينة «الزرقاء» قديما وحول موائد الإفطار، لم يكن يعنينا كثيرا كأطفال إلا صوت المؤذن في مسجد حينا، وهو ينفخ في مكبرات الصوت الضخمة، قبل أن يشرع بتكبيرة الإفطار، لتندلع برفقته أصوات المساجد الأخرى وتتداخل معلنة عن شرعية الإفطار وعبورنا نحو يوم رمضاني جديد.
ومع هذا، فلم نكن نغفل عن أمر آخر تعلقنا به، دائما ما يترافق حدوثه وتكبيرة الأذان، رغم جهلنا بمبعث حرصنا عليه، وهو ما كان يدفعنا لنصغي بإمعان بل ونصيخ السمع حتى لا يفوتنا. كان ذلك دوي القذيفة الخلبية وهي تنطلق من مدفع الإفطار، رغم أننا نحظى بها مفتتة وخاوية من وقعها كفرقعة.
أذكر بأنه كان علينا أن نصغي جيدا لما بقي من صداها لندرك هذه البهجة. في حي «قصر شبيب» المطل على أحياء مدينة الزرقاء الجنوبية، كالجبل الأبيض وجبل الاميرة رحمة، وكنت وقتها في زيارة عائلية لبعض الأقارب. قبيل الغروب، لمحت هناك بعض التجمعات العامة في الهواء الطلق. وحين عرفت السبب تملكني فرح طفولي مضاعف، وأخذت أنتظر مثلهم، مصوبا بصري نحو تلة قريب على الجانب المقابل.
كان دوي القذيفة هائلا من ذروة «الجبل الأبيض» على الجانب الآخر.
ظل صداها يتردد لوقت طويل في الجوار. امتلأت أنا بالصوت كغيري، وبالفرح المرافق لهول صداه.
في دمشق وفي أول يوم رمضاني لي هناك، وصلني الصوت مفرغا من دويه المفترض، ربما لبعد المدفع التراثي عنا، ومع هذا فرحت. قيل بأنه في «قبة السيار» المطلة على ربوة الشام، بعضهم قال، بأن ما يصل إلينا من صوت هو من مدفع آخر. ولم أدرك حقيقة الأمر حتى يومنا هذا.
يتداول البعض بأنه يشترط عرفا بأن تتواجد هذه المدافع الرمضانية، وسط القلاع التاريخية في كل مدينة، لعمقها التراثي. ففي القاهرة مثلا تنطلق القذيفة من ذروة القلعة، في جبل المقطم، قلعة «صلاح الدين»، ومن قلعة دمشق العريقة وسط العاصمة السورية. وفي عمان من جبل القلعة، أو ما حوله. في الزرقاء.. كان يمكن لتلك القذيفة أن تنطلق من قلعة «شبيب» الحميري، لكن هذا لم يحدث.
ليس مهما متى انطلقت أول قذيفة، أو أين، الأهم أن هذه القذيفة الصوتية قد أصابتنا جميعا على اختلاف أدياننا لتنفذ إلى ذاكرة جميعة واحدة، تتشابه فيما بينها، مشعلة بهجتها في صدورنا قبل أن تلوث صداها قذائف الحروب المقيتة.
ليس مهما أن نعرف أول من أطلقها، أكان الحاكم «المملوكي» في مصر، أو أنه الخديوي «إسماعيل» وهو يأمر بإطلاق قذيفته الفعلية في الهواء لأول مرة كتجربة عفوية لمدفع جديد، صادف أن يكون هذا مع غروب يوم الصيام الأول من ذلك الشهر الفضيل. ليستحسن الناس صداها وهي تشير لهم بوضوح نحو موائد الإفطار وإشهارها العلني لما هو محظور.
ليس مهما أيضا أن يقرن الناس بين مدفع الإفطار وبين «الحاجة فاطمة»، ابنة الخديوي «إسماعيل»، مثلما هو الأمر في مصر.
الأهم من ذلك كله هو عمق الصدى لأول قذيفة، وما خلفته في نفوسنا من أثر، أو ارتباط وثيق بهذا الشهر، حتى اليوم. رغم عفوية الأمر بحد ذاته، حتى بعد هذا التطور الكبير في العلم و «التكنولوجيا» ووسائل الإشهار العديدة، الدارجة.