الأولويات ومسار العبور من التكيُّفِ نحو النهوض
الإنسان على الأرض العربية في هذه الأيام وما يليها، في معركة أينما هو موقعه. هي بلوى وعراك مع فيروس كورونا وتبعاته. وهو كذلك في معارك مع مناهج حياة أضحت منتهية الصلاحية في المجتمع، السلبي منها والإيجابي. الأولى للإلغاء والثانية للتعظيم. وبرزت أولوية حياتية صارخة، متمثلة بالتمسك بالأمن الوقائي – الأمن الوقائي الصحي، والأمن المجتمعي الأساسي (حماية وحوادث)، والأمن الاقتصادي، ويتفرع منه بند الأمن الوقائي الخاص بأبنائنا وعائلاتهم، صحيا وتعليميا ومادياً، وفي مقدمة هؤلاء في هذه المرحلة، العاملون في الصحة والجيش، القطاع الأقل حظاً بيننا، فهم جميعاً على خطي الدفاع والهجوم معاً، وأضحى الهدف المرحلي الأسمي في بلادنا، إدامة المجتمع، للعبور بأدنى الأضرار، من مرحلة التكييف مع المعركة، باتجاه النهوض واستدامته، ويتطلب هذا الشأن رسم خريطة طريق منطقية.
لقد صمتت في بلداننا ومجتمعاتنا أصوات وبهتت أخرى؛ وفي حالة الأردن بالذات، فقد انحنت في المعركة، لافتات ما سمي بالمعارضة الفردية والحزبية، من نافخي الكير، ليس لقناعة منها بالحاضر السياسي، فالبعض منها جمدت لديه الأفكار، لفداحة الأمر، وعمومية الضرر القائم والمقبل، ومزاجية مطالبها وعدم جدوى بعضها، وسوء التوقيت عندها، كما توارت شخصيات وخفتت أصوات من تجاوزوا على المال العام وعلى قيم النزاهة، وأولئك ممن أتتهم المناصب منقادة، بالصدفة؛ وكلٌ منهم يجد عذراً مختلقاً أو مناسبًا يتوارى خلفه، إما تخفِّياً من مطلب مجتمعي نبيل، وهو التبرع بالمال، أو للابتعاد والتواري عن أعين ورادار الإصلاح، في أيام غَلى فيها وارتفع الخط البياني لبورصة النزاهة والطُّهْر، في كافة صوره، كما أطلّت على الساحة بعض رؤوس أيضا، لكن الجسد عندهم مغطىً بورقة تين، هاربين الى الأمام لابسين ثوب الإصلاح والنصح، ظانِّين إن ذلك يخفى على الشارع. وقد فتحَت الأزمة أعين العباد على أهمية تغيير نمط حياتهم وعلائقهم المجتمعية، وإعادة النظر بنهج مقلِّد من قشور الحداثة المستوردة الغريبة على مجتمعاتنا، ومنه الانفاق الاستعراضيٍ المُقَلِّد لكل نهج، ما عدا نهج البحث العلمي، والالتزام بالقانون والتطوير والتطوع لخدمة المجتمع، وسبق وشاهدنا، معظم الزيادة في دخل الأفراد، في مجتمعنا، تنفق على الاستعراض والتَّباري بالولائم والأزياء، وسوء التدبير المنزلي، والتكاثر بالأموال والثمرات، على نسق المجتمعات المنتصرة، المتقدمة رُغم تدني مرتبتنا الدَّخْليَّة عن مراتبها؛ وضعفت علاقات الجيرة والحارة الآمنة؛ وزاد الابتعاد عن القيم الروحية المشتركة الجامعة المُوَحِّدة. ورغم هذه المبتليات جميعها، التي يمكن العودة عنها وتصحيحها، فإن لدى الأردن خيراً كثيرا وقطاعا من الشباب كبيرا، والقيادة ذات الولاية المرنة، وباب المعرفة المفتوح على العالم، وهي مؤونة غنية للحشد والنهوض، وإن مع العسر يُسرا ومن بعدِ الشِّدَّةِ فَرَجا. ويتطلب هذا الأمر توجُّهاً صادقاً نحو الخالق بالدعاء، مصحوباً بالعمل لأجل التغيير تقودنا نحوه فئة قدوة كفؤة حسنة.
ولأجل تحديد مسار العبور من التكيُّفِ باتجاهِ النُّهوض، وما دامت الحالة حالة طوارئ فرض فيها بلاء كورونا نفسه علينا، فاختلفت بفعله واهتزت، تقديرات الإيرادات في موازناتنا باتجاه الهبوط الحاد، وتقديرات النفقات باتجاه الصعود الحاد، وشحت المساعدات الخارجية، وبالتالي ارتفعت الأعباء، لذا فالوضع الضاغط يرافقه تحدٍ كبير، بائن في الأفق الاقتصادي؛ لكن عزم الأردن، وذاكرتنا الوطنية في مواجهة الأزمات تعطينا مؤونة وتُسعِفُنا (فلنتذكر تحديات احتلال الضفة الغربية عام 1967، وأحداث السبعين، وإفلاسات بنكي إنترا والبتراء، وأحداث الجنوب عام 1989) وجميعها تدلل على أنه بالحزم والعزم عبرناها بسلام، والآن فإن وضع خطة اقتصادية مالية مرحلية طارئة لثلاث سنوات هو أمر وجوبي، تقوده لجنة أمن اقتصادي، لها صلاحيات الطوارئ، تبدأ بإقامةِ خلايا عمل مرحلية محددة الأهداف، لها صلاحيات ويشارك فيها ممثلون قياديون أكفاء تعطى لهم صلاحية دعوة الخبرات الوطنية من خارجها للمشاركة، والممارس في العمل من بيننا، يدرك ، أن وضع خطة اقتصادية طارئة، أمرٌ وجوبيٌّ، تكتيكي واستراتيجي. ولا أشك في أن الحكومة الحالية في الأردن، تقوم بتكليف كوادر وموظفين لمعالجة الوضع. لكن الاهتمام بالشأن العام يوجب على الجميع الاجتهاد واقتراح أي نهج أو فكرة تصب في صالح الوطن، ومن هذا الباب يأتي هنا هذا التصور الموازي، لبناء خطة اقتصادية مالية من قبل فِرَقٍ هي خلايا متخصصة: الخلية الأولى، خلية المالية العامة، قيادتها من وزارة المالية ومعها ممثلو ديوان التشريع والضريبة، والتخطيط والأمن والتعليم، تكون مهمتها مراجعة الموازنة العامة للدولة، والمديونية، وإعادة النظر في توزيع الإنفاق والإيراد العام، باتجاه رفع مخصصات الصحة والأمن والتربية.
الخلية الثانية: الخلية الاجتماعية، قيادتها من وزارة العمل وممثلي الضمان الاجتماعي والإعلام والاتصالات والأمن، ويكون من مهمتها الحشد الوطني للتشغيل والتعبئة الوطنية للشباب. الخلية الثالثة: خلية السوق النقدي المصرفي، وسوق رأس المال والخدمات المالية والتأمين والشركات المتعثرة، قيادتها من البنك المركزي وممثلي هيئة الأوراق المالية والبنوك وغرفتي التجارة والصناعة وجمعية رجال وسيدات الأعمال وصناديق الادخار وشركات الوساطة. تبدأ أولًا بإجراءات تدريجية لفتح سوق رأس المال، الذي هو ساريةُ الاقتصاد، ومراجعة قرار منع توزيع أرباح الشركات، والاكتفاء بقصره مرحليا فقط على أرباح المساهمات الكبيرة، لا الصغيرة العائدة لصغار المساهمين. وتحديدًا على المساهمات التي تزيد عن 1% من رؤوس أموال الشركات؛ ولِتُرْصد المكافآت السنوية لرؤساء مجالس الإدارة والمديرين التنفيذيين في الشركات المساهمة العامة، ومخصصات أعضاء مجلس الأمة، لغايات دعم جهود الوطن، فهي جميعاً سيولة معتبرة ومساهمة من هؤلاء معبِّرةً عن مسؤوليتهم الوطنية. أمّا مهمة هذه الخلية فتنصبّ على رسم تصور لاتجاه هذا القطاع الأساسي ومعالجة السيولة الوطنية وإدارتها، وتوجية التسهيلات الائتمانية والاستثمار ومعالجة أي تعثرات متوقعة، في هذا القطاع.
ما سبق هو اجتهاد، ونبض عملي نابع من ممارسة طويلة في العمل العام، والخير أكثر إن اجتهدَ وقدّم اجتهاداً، كلّ ذي خبرة واهتمام وطني، ولتباشر لجنة الأمن الاقتصادي عملها عاجلاً، تلك التي يرأسها رئيس الحكومة، لمعالجة المقبل، وإعادة حركة عجلة الحياة للاقتصاد، وتقود سفينة التكيُّف والنهوض، فالوضع العام القائم هو شأن، والمقبل شأن آخر لا يقل أهمية، وليس شأناً ترفياً ولا نزهة، إنه ظرف مقبل طارئ يحتاج إلى مواجهة مخططة ومدروسة.
وزير أردني سابق - القدس العربي