الدولة والخيارات الاقتصادية
صحيح أن الوباء يكشف عن استعصاء اقتصادي واضح، ولكن الخروج منه ممكن. نعم، ممكن وسهل. والخطوة الأولى لجعل هذا الخروج (ممكناً وسهلاً)، هو القبول بالشروط الأساسية التي تحررنا من الأوهام، وتدفعنا لإعادة إنتاج الخيارات. وتتجلى الخطوة الأولى، بقبول المسير نحو الأمام، فالمطلوب هو تصور يأخذنا للمستقبل، ولا يعيدنا بردة غرائزية، إلى أدوات وخيارات الماضي. فالماضي لا يمكن استعادته. كما أن الوباء نقطة انعطاف، تتطلب إسدال الستار على الكثير من تفاصيل وآليات عمل الماضي، وأنماط التفكير التي أنتجته. فالتحدي الآن هو في إيجاد مسارات (آمنة، وفعالة) تخرجنا من حالة الاستعصاء، نحو مستقبل مختلف، وليس إعادتنا للماضي.
وأول هذه الشروط، وهو الدرس الرئيسي في صياغة أي خيار استراتيجي: تحديد الذي يجب (عدم القيام به)، حتى يتم الاهتداء لما يجب القيام به. والشرط الثاني، والذي يتبع الأول، هو أن الاستراتيجيات تتحدد وتكتسب قيمتها العملية بطرق العمل. فالمسارات الجديدة هي طرق عمل جديدة. وطرق العمل الجديدة يتم صياغتها بقواعد ملزمة. والشرط الثالث، هو امتلاك القدرة على مراجعة الأداء وتطويره، بعملية تخطيط مستمرة. فالاعتقاد بأن هناك طريقة عمل تولد مكتملة، ولا تحتاج إلى تطوير أثناء العمل، أحد الأوهام التي يجب التخلص منها.
الشرط الأول يقودنا إلى سؤال مركزي: هل ستقوم الحكومة بإطعام الشعب الأردني؟ إذا كان الجواب البديهي (لا –جازمة). فهذا يقودنا إلى أن مهمة الحكومة هي، توجيه وتحفيز النشاط الاقتصادي للمجتمع، وليس ممارسته نيابة عن المجتمع. وهذا يعني أن الأجهزة الحكومية والوزارات، ليست مطالبة بإدارة أنشطة اقتصادية، ولا توزيع الخبز على المنازل، وإنما امتلاك أدوات الرقابة، وأدوات التحفيز والتوجيه، سنداً إلى فكرة مركزية وهي: أن المجتمعات تتعين وتكتسب ملامحها بالنشاط الإنتاجي. أحد أقدم قوانين الاقتصاد (قانون سيز) مضمونه: أن الأنشطة الانتاجية، هي من يصوغ قنوات التوزيع والاستهلاك.
امتلاك الحكومة لأدوات الرقابة والتحفيز والتوجيه، هي المفتاح. وهذه الأدوات تتركز بثلاث مسارات. الأول: أن يكون لدى الحكومة ما توجه به النشاط الاقتصادي. فالحكومة التي لا رؤية لديها، لن تستطيع أن تقدم للنشاط الاقتصادي ما يحتاجه. والثاني: أن تقدم المحفزات الضرورية، لدفع الناشطين اقتصادياً، للعمل ضمن التوجهات وقواعد العمل، التي تحقق رؤيتها. والثالث: تكامل تطوير الأداء مع الرقابة، وهذا مرهون باستعداد نفسي ومعنوي للحكومة، لأن تتلقى تغذية راجعة، لتراجع في ضوئها إجراءاتها وتعدلها (بمنطق الشراكة مع السوق، وليس التعالي عليه).
ونقطة البداية العملية هي: مراجعة رزمة أدوات التحفيز والتوجيه الاقتصادي، وعدم الارتكان إلى محفز معزول. إذ بالرغم من أهمية التحفيز النقدي، لكن يجب التوقف عند محدوديته. فهو عاجز وحده أن يأخذ الاقتصاد الوطني بعيداً عن واقعه الحالي، وقيادته لارتياد آفاق استثمار جديدة. التحفيز النقدي (وحده دون إسناد) يبقي الاقتصاد الوطني رهينة لأنماط الاداء القديمة. وهذا ما يتبدى من خلال الأصوات التي تطالب به، ومن خلال التجارب القريبة التي اعتمدت في العديد من اقتصاديات العالم. والمحدودية الثانية للادوات النقدية، هي تأخر فاعليتها، وحاجتها لزمن طويل حتى تصبح فعالة وتظهر نتائجها. وفي المعركة مع الوباء، الوقت اللازم لظهور النتيجة، أحد أهم مؤشرات النجاح والفشل لأي خيار.
وحيث أنه لا يمكن التخلي عن وسيلة التحفيز والتوجيه النقدية، فلا بد من اسنادها بوسيلتين متاحتين وهما (المالية، والإدارية-القانونية). فالادوات المالية التي تمتلكها الحكومة، والقدرة على فرض قواعد جديدة لممارسة النشاط الاقتصادي وإدارته، من شأنهما معاً، أولاً تحرير الادوات النقدية من تماسيح (وليس حيتان) السوق، والثاني تقليل الوقت اللازم حتى تظهر نتائجها.
والنقطة الأخيرة، هي بناء مصفوفة الإدارة (السيطرة والتوجيه) على الخيارات المختلفة. فهذه ضرورة للتحرر من وهم الاعتقاد، بأن العلاقة بين قرارات الحكومة ونتائجها علاقة خطية. إذ أن نجاح أي خيار للحكومة، مرهون بسلسلة طويلة ومعقدة من المؤثرات، كما أن له تداعيات وآثار واسعة.
نعم (حاسمة وقاطعة)، الخروج من الاستعصاء ممكن، وبوقت قصير، وبكلف قليلة جداً، ونتائج مشرفة. وخطة المسار العام لهذا الخروج، مرهونة بتوفر الإرادة، والثقة بالنفس بأن هذا الخروج ممكن. وهي بسيطة وسهلة ومباشرة: امتلاك العزيمة (التي لا يفتقر لها الأردن) لتشغيل متزامن لكل من الأدوات المالية والنقدية والإدارية- القانونية. والتوقف عن التذاكي بالتشكيك، والتهويل، لتبرير بعض الخيارات. فهذا يسمم الحوار الوطني، ويعيق مسيرة التقدم، بربطها بعوالم افتراضية، وتلزيمها بما لا يلزم، للإبقاء على صيغ عمل ومحددات، عفا عليها الزمن. جمال الطاهات - الدستور