الرؤية والإرادة في تشكيل سنغافورة
الدرس الأهم في تجربة سنغافورة، ورواندا، وغيرها من الدول التي حققت قفزات تنموية مميزة، هو أن الظروف الموضوعية تملي مسارات الحركة، ولكنها لا تمنع تحقيق الأهداف. الشروط الموضوعية، هي تضاريس، تشكل المسارات، ولكنها لا تمنع الوصول إلى القمة. فرص التقدم متاحة للجميع، بغض النظر عن ظروفهم، والنجاح مرهون فقط بالرؤية والإرادة.
لقد انطلقت سنغاورة من فكرة جديدة عن نفسها، تتلخص في بناء «المدينة الحديقة»، أعلنها الزعيم الاستقلالي لي كوان يو، بعيد إخراجها من الاتحاد الماليزي في آب، 1965. وقدم بذلك صياغة لرؤية الدولة لذاتها، ستقود خطواتها، وتشكل معايير صحة سياساتها. صياغة الرؤية وإدارة تنفيذها هي الرافعة التي نقلت سنغافورة من عبء على نفسها وعلى شركائها، إلى قصة نجاح استثنائية. إذ أن الرؤية ليست نصوصاً فارغة، تكتب في وثائق المؤسسات. فالمؤسسات تقاد بالأهداف التي تساهم بتحقيق الرؤية. وتقيم بمقدار مساهمتها بتحقيق الرؤية. بناء المدنية الحديقة قدم ما عبر عنه أحد الكتاب: «الوسيلة لقيادة الراهن من المستقبل». فحتى نصنع المستقبل اليوم، فإن الرؤية التي توضح صورة المستقبل، وتقدم الدليل والمرشد لتصميم الأنشطة المختلفة وضمان الانسجام بينها.
في سنغافورة لم يتحدثوا عن رؤية لكل مؤسسة، ولكن تحدثوا عن رؤية مركزية، وكيف تخدم كل مؤسسة هذه الرؤية وتحققها. كما أنهم لم يتحدثوا بلغة ملتوية ضبابية وغائمة، بل تمت ترجمة (المدينة الحديقة) إلى برامج تنفيذية واضحة، قابلة للقياس بمؤشرات نجاح معيارية لا لبس فيها.
سنغافورة التي تستورد المياه، تحولت إلى حديقة. وبالمناسبة، أصر لي كوان يو، باتفاقية الاستقلال، أن تلتزم ماليزيا بتصدير المياه إلى سنغافورة لمئة عام تنتهي 2065. وهي الدولة التي تخصص ما لا يقل عن 12% من مساحتها طرق، بنت أفضل منظومة نقل في العالم.
علاقة سنغافورة بالاستثمار مميزة. فقد تمسكت سنغافورة بمجموعة معايير وشروط قاسية، على المستثمرين أن يلتزموا بها حتى يتمتعوا بميزات سنغافورة. صحيح أن سنغافورة تسوق باعتبارها (ملاذ ضريبي)، ولكن ضريبة الدخل على المقيمين فيها تصاعدية تراكمية، تصل إلى 22%. وأكثر من 70% من المستثمرين المقيمين فيها يقعون ضمن الشريحة الأعلى للضريبة.
السياسات الاقتصادية في سنغافورة، صممت على أساس أن مضمونها يحدد بما تقدمه الدولة للمستثمرين من ميزات (وليس تسهيلات مباشرة). فكان ممنوعاً على قادة الأجهزة الحكومية التفاعل المباشر مع المستثمرين. وأي مستثمر لديه شكوى يكتب مباشرة للرئيس لي كوان يو. وكانت مخالفة ألقاء علكة في الشارع مروعة.
وتأسيساً على أن الهدف المركزي للنشاط الاقتصادي ليست خدمة الآخرين، بل خدمة الذات (على حد تعبير لي كوان يو)، صمم معيار صحة السياسة الاقتصادية تجاه المستثمرين. فالمعيار هو التوازن بين الميزات والمنافع التي يحصل عليها المستثمر، والكلف التي لديه الاستعداد لدفعها للحصول على هذه المنافع. فكما أن كل مستثمر يسعى لتحقيق الربح، عبر تقديم منافع للمجتمع، ويحصل مقابلها على أرباح يرتضيها، كذلك الدولة، «لا تقدم للمستثمرين، خدمة مجانية، بل تقدم لهم فرصة، عليهم أن يدفعوا مقابلها». والرؤية متعلقة بطبيعة ونوع الفرصة التي تقدمها الدولة للمستثمرين، وتحقق أعلى دخل للخزينة.
درس سنغافورة يؤكد على أن النجاح ليس منتج الصدفة، بل هو ثمرة الرؤية التي تحقق التفاعل الخلاق بين الواقع الموضوعي والهدف. ودور الصدفة، هو في توفر الإرادة، والعقل القادر على استيعاب تفاصيل الواقع، وتصميم وتنفيذ خطة للنجاح والانطلاق. الموارد، والقيم الثقافية، ترسم الشروط الموضوعية للنجاح، وليست مستودع لتقديم مبررات للفشل.
جمال الطاهات