فكرة الأردن في مواجهة المشروع الصهيوني

أهم التحولات الاستراتيجية في القرن العشرين، هي مركزية فكرة الدولة في تطور الصراعات. والسياق العالمي المعاصر، يمنح فكرة الدولة وزناً استثنائياً في أي صراع. فالمستهدف ليس الموارد والعناصر المادية التي تشكل الدولة، بل فكرتها التي تصوغ هذه العناصر وتوجهها. من هنا فإن، بؤرة الصراع الأردني الإسرائيلي، هي فكرة الأردن في مواجهة هيمنة الحركة الصهيونية على دولة إسرائيل.
فكرة الأردن، كما تبلورت في مؤتمر امكيس (2-5) أيلول 1920، تتلخص بإنشاء دولة (إمارة الشرق العربي) لاعتراض المشروع الصهوني. وكانت أهم مقررات المؤتمر منع هجرة اليهود إلى الأردن، وإنشاء جيش «ملّي» لحمايته. مما جعل الدولة الأردنية، بفكرتها المنشئة، مضادة للمشروع الصهيوني.
شهد الصراع ومنذ مراحله المبكرة، محاولات أردنية -غير ناجحة- لاحتواء الفكرة الصهيونية وتصفيتها، باعتبار ذلك شرطاً ضرورياً، للارتقاء بفكرة الدولة الأردنية وتطويرها، من المستوى الاعتراضي إلى المستوى التأسيسي. كما شهد الصراع، محاولات صهيونية فاشلة (ومستمرة)/ لسلخ الدولة الأردنية –جغرافيا وديموغرافيا- عن فكرتها، واختزالها بسياق إداري، حسب تصورات هربرت صمويل، وعرضه الذي رفضه الأردنيون في 26 آب 1920، وصاغوا خيارهم بعدها باسبوع، في مؤتمر امكيس.
الديناميكا المستمرة منذ قرابة قرن هي، كلما تصاعدت شحنة الحركة الصهيونية، وخضعت إسرائيل لإملاءاتها، كلما تصلبت الشحنة الاعتراضية لفكرة الدولة الأردنية كما تبلورت في مؤتمر امكيس. وكلما ابتعدت إسرائيل عن الحركة ومنطقها، واقتربت من أن تصبح دولة طبيعية ديمقراطية لكل سكانها، كلما انفتحت آفاق تطوير فكرة الدولة الأردنية وانتقالها للمرحلة التأسيسية.
اللحظة الفارقة، هي في انكشاف محدودية عملية السلام. فموازين القوى، التي أخذت إسرائيل إلى مدريد، غير كافية لتطوير فكرة (دولة إسرائيل)، وتحريرها من إملاءات الحركة الصهيونية، وتجلياتها الأيديولوجية. فبعد مرور ثلاثين عام على مشروع التسوية، ما تزال إسرائيل صدى للحركة، وأسيرة لها، كما كانت في لحظات نشأتها الأولى.
التسريبات الإعلامية، والعديد من المؤشرات تؤكد بشكل حاسم، أن ضم الضفة الغربية، سيجري بعد أسابيع، حسب التوقيتات الإسرائيلية، مما يضع الأردن أمام امتحان صعب: جدوى إحياء الشحنة الاعتراضية في فكرة الدولة الأردنية، وانسجامها مع سياقات القرن الحادي والعشرين. فالأسئلة الصعبة، التي تم تجنبها على مدى ربع قرن، عادت لتفرض نفسها، بفاعلية الخيارات الإسرائيلية. وتفرض على الأردنيين تقديم إجابات بمستوى تحديات القرن الواحد والعشرين. فلا يمكن العودة لاحياء سياقات الحرب العالمية الاولى، بعد أكثر من قرن على انقضائها. صحيح أن التهديد الذي يتعرض له الأردن الآن، بسبب هيمنة الحركة الصهيونية على دولة إسرائيل، يضيق «خيارات الضرورة» الأردنية، ولكن السياق العالمي المعاصر يمنح الأردن آفاق غير مسبوقة، يجب استثمارها وتوظيفها في الصراع.
الإنقلاب الاستراتيجي يتجلى في فرصة تاريخية للدولة الأردنية، تتجلى في إدامة السعى للتطور والاندماج مع سياقات القرن الواحد والعشرين، عبر تكريس البعد التأسيسي في فكرتها، واستمرار مواجهة المشروع الصهيوني الذي ما زال يهيمن على دولة إسرائيل. الأردن يمكن له أن يكون عنواناً للتقدم، وإسرائيل تتحول بيمينها، إلى عنوان عالمي، يتحدي القيم الإنسانية، ويعيد إنتاج وهم الاسطورة، في القرن الواحد والعشرين.
فرصة الدولة الأردنية، في محاصرة المشروع الصهيوني واحتوائه، تتجدد بالتغير المستمر في موازين القوى، واكتساب فكرة الدولة ثقلاً استراتيجياً لم يكن متاحاً قبل سنوات. فلم يعد التفوق الإستراتيجي الإسرائيلي قدراً لا راد له. فالأردن الذي حمل عبء التصدي للمشروع الصهيوني، وتمكن من حصره جغرافياً، قادر على اغتنام التحولات الإستراتيجية التي تجري الآن، لتحقيق منجزات تاريخية استثنائية.

جمال الطاهات - الدستور

زر الذهاب إلى الأعلى