المعرفة تطور العالم وتطور نفسها وتطورنا
عمان1:الطباعة لم تنتج فقط الكتب، ولكنها طورت المنظومات الاجتماعية والسياسية. فالدولة الحديثة، التي وظفت المعرفة لتغيير البيئة والمجتمعات والأفراد، هي أحد منتجات آلة روتنبرغ. كما أن المعرفة نفسها تطورت بفعل تطور تقنيات توزيعها عبر الكِتاب. فبعد أن حافظ المسرح، بكل تنويعاته وإيحاءاته المعرفية والجمالية، على الوحدة الاجتماعية والسياسية للمدائن، التي تشكلت الامبراطوريات القديمة من مجموعها الجبري. جاءت المطبعة، لتمنح الفرصة لثورة الشعر والسرد القصصي، وتجدد الفاعلية السياسية للاحلام. وبتأثير المعرفة وحواملها الفنية والجمالية إضافة إلى التقنيات التطبيقية، تطورت الإمبراطوريات وعلاقتها بمكوناتها ومدائنها. وبمقدار ما خلق الكِتاب وهم القوة بتشكيل «الحقيقة الثقافية»، بقي عاجزاً عن اختراق حدودها الموضوعية. ووقفت فاعلية الكِتاب أمام جبروت الهويات، فهو يعززها ويكتسب فاعليته منها، ويغري ويحرض بتجاوزها بذات الوقت.
ولكن الإنجاز الأهم للطباعة هو قدرتها على تجاوز نفسها، بالثورات المعرفية والتقنية التي تلتها، وتسارعت بفضلها، وأدت إلى تجاوزها. فمع تراكم المعرفة بفاعلية الكِتاب، تمكنت البشرية من تحقيق القفزة الهائلة، بإنجاز التحولات التقنية المعاصرة التي تقود لوحدة الثقافة الإنسانية. فالمعرفة التي تم تطويرها عبر الطباعة، حققت حلم أفلاطون بالمدرسة التي تحمي المجتمع من التضليل و»خداع المغالطات». كما سهلت الطباعة اختراعات كبرى مثل الجامعة، والسكك الحديدية، والطرق والسيارات والمطارات والطائرات، والمصانع، ثم أدخلتنا إلى عصر الآلات الأتوماتيكية، ثم الانتاج المعياري للسلع (من الأحذية والملابس، إلى المدافع والادوية). فالطباعة بمنجزاتها المعرفية والتقنية السابقة هي الحاضنة لثورة الإلكترونيات، بما فيها الراديو والتلفزيون، والكاميرات المحمولة، وصولاً للموبايل. واوصلتنا إلى كل المنجزات التي قادت للثورة التكنولوجية الرابعة، التي أعادت توزيع منجزات تراكم الثورات المعرفية والتقنية، لتصبح متاحة للجميع (انتاجاً واستهلاكاً)، متجاوزة الطباعة ومركزية المعرفة التي استندت إليها.
أهم منجز للثورة التكنولوجية الرابعة، إنهاء احتكار انتاج وتوزيع المادة المعرفية بكل أشكالها. فلم تعد الطابعة، ولا النص المسموع ولا المصور، حكراً لأي فئة اجتماعية. ولم يعد احتكار المعرفة مصدراً للسلطة السياسية. فالإعلام الجماهيري، الذي عزز فكرة الدولة الحديثة وعممها، يضمحل بشكل متسارع. كذلك المدرسة، التي مثل وجودها عنوان وجود الدولة الحديثة وسلطاتها، تتفكك بسرعة كبيرة بتزامن فاعلية التكنولجيا وكورونا. يكفي التذكير بفقدان الإذاعة والتفزيون والصحف مركزيتهم خلال عقدين.
فما فعله الإنسان عبر القرون الثلاثين الماضية، أنه أثناء تحويله وتشكيله للبيئة المحيطة به، كان يطور ويعدل منظوماته الاجتماعية والمعرفية وخصائصه الفردية كذلك. فالقانون الحاسم أن الفعل الإنساني غير الطبيعة، ولكن من خلال تطوير وتغيير الادوات التي تمكن من السيطرة على الطبيعة وتغيرها، تم بذات الوقت، تغير الإنسان الذي ينتج ويستعمل هذه الادوات لتلبية احتياجاته.
المعرفة بآلياتها ومنهجياتها التي تصون موضوعيتها، ما زالت تتطور، بفاعلية عاملين: التقنيات المتاحة لانتاجها وتوزيعها، والنظم الاجتماعية التي توظف المعرفة لغايات سياسية واقتصادية. فالادوات التي تقدمها المعرفة للسيطرة على الطبيعة، لا يمكن الاستفادة منها دون تطوير المنظومات الاجتماعية والاقتصادية التي تستخدمها. فكل تطور معرفي تقني كان ينطوي على ضرورات لتطوير المنظومات التي يمكن لها أن توظفه. وتحولت التكنولجيا إلى تثوير وتطوير لكل المنظومات، بما فيها المنظومات العسكرية والأمنية.
هذه العوامل، وغيرها الكثير، يعيد طرح السؤال حول حقيقة وجود سياق معرفي مستقل في تاريخ الإنسان. فتاريخ المعرفة هو تاريخ منهجياتها وتقنياتها وادواتها ومنظوماتها، وآثارها على مجمل الحياة الإنسانية بكل جوانبها. واهم من يعتقد أن المعرفة تقدم فقط تقنية. وواهم من يعتقد أن المعرفة تقدم وسائل تنظيم وادوات فقط. فالمعرفة تغير العالم وتغير نفسها وتغيرنا.
جمال الطاهات- الدستور