أفريقيا القارة المنكوبة والثروات المنهوبة .. قراءة اقتصادية لانقلاب النيجر
عمان1:كتب غسان الطالب
ما يجري اليوم في أفريقيا ومحاولة استرداد حياتها الإنسانية والتخلص من تاريخ يمتد إلى مئات السنين تخلله سرقة الملايين من مواطنين هذه القارة على هيئة رقيق قد شُحِنوا مُقيَّدين بالسلاسل عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكيتين كي يعملوا لخدمة الاقطاعيين في مزارعهم لتوفير العمالة المنتجة لثروتهم فيما يسمى نظام العبودية، حيث يقدر أن ما تم سرقته من سكان أفريقيا بحوالي 25 مليون شخص بين من وصل منهم على قيد الحياة ومن فقد حياته أثناء الشحن، مما أدى إلى إفراغ مناطق واسعة من هذه القارة من سكانها وأحدث خللاً ديموغرافيا لا زلنا نراه حتى اليوم علماً بأن ما تم سرقته من الأفراد هم على الأغلب من الشباب القادر على العمل ، ولا غرابة في أن البناء والإزدهار الاقتصادي في أمريكا والقارة الأوروبية قد تم بأيدي هولاء اللذين كانوا يسمونهم ب"الرقيق أو العبيد"، هذا التطور الاقتصادي الذي أنتج الثورة الصناعية في كل من أمريكا وأوروبا كان بحاجة إلى الموارد الطبيعية غير المتوفرة لديهم لكنها متوفرة في القارة السمراء، وهنا لم يتوقفوا عند سرقة البشر بل امتدت أطماعهم وطغيانهم إلى احتلال العديد من البلدان الأفريقية وتقسيمها إلى مناطق نفوذ ثم احتلالها بهدف استغلال ثرواتهم وخيراتهم حتى يتمكنوا من توفير احتياجات الثورة الصناعية من المواد الخام وإعادة تصنيعها وبيعها للأسواق العالمية الأخرى، اشترك في هذا التقسيم والاحتلال كل من بلجيكا وفرنسا والبرتغال وبريطانيا سيئة الذكر والتاريخ، ثم دخلت ألمانيا كقوة صاعدة في حينها لتحتل مساحات واسعة من غرب أفريقيا واعتبرت أن ذلك حقا لها في تقاسم غنيمة القارة الضحية، وعلى إثر ذلك انعقد مؤتمر برلين في العام 1884 بين الدول الأوروبية الطامعة في الهيمنة على قارة أفريقيا وتقسيمها إلى مناطق نفوذ بينهم، شاركت فية 13 دولة أوروبية هي (ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والنمسا، والمجر، وبلجيكا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال)، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بصفة مراقب لإضفاء الصفة الدولية على هذا التجمع الاستعماري، فكان بمثابة أول مؤتمر استعماري هدفه تنظيم عملية السلب والنهب لثروة أفريقيا فكان تقسيم القارة إلى مناطق خاصة ودويلات كما نراها اليوم دون أن يقدم هذا المؤتمر أية اهتمام بحقوق المواطنيين ولا لأملاكهم وإنما كرّس اهتمامه فقط بضمان سلامة الدول الأوروبية المستعمرة وهيمنتها على ثروات القارة.
أوردنا هذه المقدمة للحديث عما يجري اليوم من صحوة قومية في بعض دول القارة كما شاهدنا ما حصل في مالي وبوركينا فاسو وأخيراً انقلاب النيجر الذي هدف إلى التخلص من آخر الرموز الفرنسية في هذا البلد المنهوب، فهل يكون النيجر هو من يقود الثورة الاقتصادية في القارة السمراء لاستعادة السيطرة على ثرواتها والتخلص من الاستبداد الاستعماري الذي فرضه عليهم مؤتمر برلين، فالنيجر يقدرعدد سكانها بما يزيد عن 25 مليون نسمة وقد سجل حتى نهاية العام 2022معدل نمو سكاني يقدر بنسبة (2.9)، ويمتلك مساحة شاسعة مقدارها 1,267,000 كم² تعادل أكثر من ضعفي مساحة أوكرانيا وأكثر كذلك من ضعفي مساحة فرنسا، ورغم أن النيجر تمتلك ثروات طبيعية كبيرة مثل اليورانيوم والذهب والنفط، فإنها تعد من أفقر الدول الأفريقية وهي تحتل المرتبة 174 في قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم من بين 177، حسب تقديرات البنك الدولي، ويتلقى نحو ملياري دولار سنويا حسب بيانات البنك الدولي، إلا انها غيرقادرةعلى النهوض بنفسها اقتصاديا واجتماعيا نتيجة لافتقارها للبنية التحتية المناسبة وتدني مستوى خدمات القطاع الصحي والقطاع التعليمي كذلك.
تمتلك النيجر واحداً من أكبر احتياطيات العالم من اليورانيوم فضلا عن احتياطيات كبيرة من الذهب الموجودة بين نهر النيجر والمنطقة الحدودية المتاخمة لبوركينا فاسو، إضافة إلى احتياطيات هائلة من الفحم عالي الجودة تم اكتشافه في جنوب وغرب البلاد، ناهيك عن الاحتياطيات النفطية الكبيرة التي تزخر بها البلاد، وتمتلك العديد من الموارد الطبيعية وهي غنية في المعادن التي تعتمد عليها في اقتصادها، ومنها اليورانيوم، الفحم، خام الحديد، الفوسفات، القصدير، الذهب، وغيرها، وعلى الرغم من وجود هذه الموارد الطبيعية التي تجعل من البلد غنياً بالثروات إلا أنها صنفت من البلدان الأكثر فقرا في العالم حيث لا تستطيع الاستفادة من الموارد المتوفرة لديها بسبب سيطرة فرنسا بشكل مباشر اوغير مباشر من خلال إرثها الاستعماري وادواته والتحكم بهذه الموارد، أما في القطاع الزراعي فإن من أهم ركائزه هي المحاصيل الموسمية والثروة الحيوانية رغم أنه يعاني من مشكلات بيئية أهمها الجفاف والتصحر التي حدت من قدرة هذا القطاع من المساهمة الحقيقية في التنمية الاقتصادية.
سر الاهتمام الدولي بانقلاب النيجر وحكاية اليورانيوم
تعتبر النيجر محور الارتكاز للتواجد الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، ولدى فرنسا خمسة قواعد عسكرية فوق أراضي النيجر وهي ذات أهمية كبيرة للاقتصاد الفرنسي خاصة في مجال الطاقة النووية حيث يقدر أن انتاج المفاعلات النووية الفرنسية من الطاقة يعتمد على 80%تقريبا على يورانيوم النيجر، بما يعادل 35% من اليورانيوم المسروق يذهب لفرنسا بثمن بخس حيث يعود للنيجر سنويا ما يعادل 150 مليون دولار علماً بأن القيمة الفعلية لليورانيوم المصدر إلى فرنسا يعادل بحدود ال 12 مليار دولار، وتعدّ النيجر سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، حسب "الرابطة النووية العالمية"، وأحد أكبر المورّدين لهذه المادة -المستعملة في توليد الكهرباء من الطاقة النووية- إلى فرنسا وأوروبا، حيث بلغ إنتاج اليورانيوم في النيجر -التي تمتلك خامات يورانيوم عالية الجودة في إفريقيا- 2020 طنًا في عام 2022، أي نحو 5% من الإنتاج العالمي، فما جرى في النيجر وقبلها مالي وبوركينا فاسو يؤكد الرغبة الحقيقية والجازمة لدى شعوب أفريقيا في التحرر والانعتاق وإنهاء مرحلة النهب الاستعماري لثروات أفريقيا وخيراتها، وظهور جيلاً جديداً يؤمن بقدرات أفريقيا وشعوبها بأن تبني اقتصادتها وحضارتها اعتماداً على ذاتها وإمكاناتها.
لو نظرنا إلى الأمر من زاوية اقتصادية لأدركنا أن ثروة البلاد من اليورانيوم تشكل محركاً أساسياً للأحداث هذا البلد، وما يؤكد ذلك أن المجلس العسكري الذي قاد الانقلاب كانت أولى قراراته إيقاف تصدير اليورانيوم إلى فرنسا، وحسب بيانات الرابطة النووية العالمية بأن 25%من كهرباء أوروبا يعتمد على اليورانيم المصدر من النيجر مما يؤكد المقولة بأن اليورانيم هو العنصر الرئيسي في تكالب الغرب اوحلفائهم في المجموعة الاقتصادية الأفريقية (ايكواس) في إجهاض الانقلاب الذي أطاح بالمصالح الفرنسية بالأساس ثم المصالح الغربية
نحن العرب ورياح التغيير الأفريقي
مما لا شيك فيه أن انقلاب النيجر سيكون له انعكاساته المهمة على أقطار المغرب العربي وبغض النظر عما يفترضه البعض من دخول النيجر في فوضي سياسية وأمنيه ستتأثر أقطار المغرب العربي الكبير مثل موضوع الهجرة والتسلل للجماعات الإرهابية من الحاضنة الأوروبية والأمريكة لها إلى هذه البلدان، إلا أننا ننظر له من زاوية أخرى وهي بزوغ مرحلة جديدة من الوعي والإصرار على التحرر وطرد المستعمر واستعادة خيرات البلدان الأفريقية المنهوبة خاصة التواجد الفرنسي الأمني والعسكري في أفريقيا، بما في ذلك بعض الأقطار العربية المغاربية ووضع حد لسياسة البلطجة والتمادي في استغلال ثروات هذه البلدان لا بل نهبها وسرقتها من خلال اتفاقات ومعاهدات تعود إلى حقبة استعمارهم لهذه الأقطار، فرياح التغيير إن هبت من أفريقيا ستعم القارة عاجلاً أم آجلاً، وكما هي النيجر وبقية البلدان الأفريقة السمراء الغنية بكافة الثروات الطبيعية من معادن وزراعة إلى ممرات نقل بحري وبري، فإن المغرب العربي الكبير يمتلك من الثروات الكم الهائل الذي إن استُغل بعيداً عن الإرث الاستعماري وأدواته في نفوذه الاقتصادي والسياسي في هذه الأقطار، فأنها ستتمكن من بناء اقتصاد عربي مستقل غير تابع انطلاقا من هذه الأقطار لنصل إلى بناء تكتل اقتصادي عربي يفضي إلى التكامل الاقتصادي العربي المنشود.