نموت ولا نخدم .. الحريديم ينظّمون مليونية غضب رفضاً للخدمة العسكرية

عمان1: يستعد اليهود المتزمتون الأرثوذكس المعروفون بـ”الحريديم” للمشاركة في مظاهرة مليونية في القدس المحتلة تحت شعار “نموت ولا نخدم”، رفضاً لمحاولات فرض الخدمة العسكرية عليهم، ما يكرّس، بل يعمّق الانقسامات والخلافات السياسية والاجتماعية بينهم وبين أوساط واسعة من الإسرائيليين، خاصة العلمانيين.
ظهر تيار الحريديم خلال القرن الثامن عشر في وسط وشرق أوروبا ردّاً على حركة “التنوير”، الحركة اليهودية الداعية للنهضة والتحديث في تلك الفترة، وجاءت التسمية بالعبرية “حريديم” من آيةٍ توراتية تُستخدم فيها هذه الكلمة وتعني “الأتقياء”، الذين “يسارعون إلى الاقتراب من الله بورعٍ وخشيةٍ لتطبيق فرائضه بدقة”. وقد اتسعت وتبلورت بعد الكارثة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية التي اعتبروها قصاصاً ربانياً لابتعاد اليهود عن طريق اليهودية.
يقيم اليهود الحريديم في البلاد، وفي مجمّعات خاصة بهم في الولايات المتحدة وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا وكندا.
ويختلف اليهود الحريديم عن بقية اليهود بأنماط حياتهم الاجتماعية، لا برفضهم الخدمة العسكرية فحسب، فيفضّلون العيش في جماعات مغلقة خوفاً من الانبهار والانصهار بالآخرين العلمانيين، وخوفاً من الاحتكام إلى مجتمع فيه اختلاط رجالٍ ونساء، ولهم أحياؤهم السكنية، ونظام مدارس خاص بهم.
في مدارسهم وكلياتهم الدينية يتم التركيز على المضامين التوراتية وعلى اللغة العبرية، ويُهمِلون العلوم والرياضيات والإنكليزية، ما يوسّع الانشقاق والخلاف مع بقية الإسرائيليين، لا سيما أنهم منقطعون عن العمل أيضاً، ويعتمدون على عمل نسائهم.
ويرى مراقبون أن حقيقة كون الحريديم لا يعملون ولا يتعلمون كما يجب، ولا يخدمون في الجيش، ويتقاضون رواتب شهرية من الدولة، يعني أن هناك جماعتين إسرائيليتين مختلفتين، خاصة أن للحريديم عالماً روحياً وأنماط حياةٍ محافظة ومتزمّتة.
ويبلغ التزمّت الاجتماعي حدّ إجبار النساء في مواقع سكناهم على الجلوس في المقاعد الخلفية فقط من الحافلات، وكذلك السير على الرصيف الآخر من الشارع بعيداً عن الرصيف المعدّ للرجال فقط، رغم أنهن يخرجن للعمل بنسبة 80% ويلعبن دور المعيل المركزي. وفي بلداتهم يُمنع بيع الهواتف المحمولة الذكية خوفاً من “مفاعيلها السلبية” على عالمهم الخاص.

الزيادة الطبيعية
تُعتبر الزيادة الطبيعية لدى اليهود الحريديم الأعلى في صفوف الإسرائيليين، إذ تبلغ نحو 6.6 أفراد لكل أسرة، وهم يشكّلون اليوم 14% من السكان، 19% منهم دون سن التاسعة عشرة، وبذلك يتجاوزون نسبة الزيادة الطبيعية لدى العرب الفلسطينيين في النقب داخل أراضي 48، الذين يتميزون بزيادة طبيعية مشابهة جداً بسبب نسب الإنجاب العالية وظاهرة تعدد الزوجات.
اليهود الحريديم في البلاد والعالم، الذين يتميزون بارتداء ملابس بالأبيض والأسود فقط، ويعتمرون قبعات سوداء لتمييز أنفسهم عن الآخرين، يتوزّعون بين تيارات فكرية ودينية متفاوتة، منهم اليهود الغربيون، ويمثّلهم حزب “يهدوت هتوراه” في الكنيست، واليهود الشرقيون الممثلون بحزب “شاس”.
كذلك هناك تيار ديني قومي يجمع بين الدينية الأصولية والتقليدية وبين القومية الحديثة، وفي المقابل هناك تيار “ناطوري كارتا” المعادي للصهيونية، ويعتبر إسرائيل خطيئة، ويرى أن الأفضل لليهود هو العيش مع العرب في إطار دولة فلسطينية من البحر إلى النهر، لكن عدد هؤلاء قليل جداً لا يتعدى بضعة آلاف.

رفض الخدمة العسكرية
منذ نشأة تيار اليهود الحريديم، كان معارضاً للصهيونية، وأكد على ذلك عدد كبير من حاخاماتهم باعتبارها تجسيداً للعلمانية المرفوضة، فيما اعتبرها قسم آخر منهم استفزازاً خطيراً للشعوب الأخرى، وقسم اعتبرها إعاقة لفكرة “الخلاص الكبير”.
بيد أن هذا العداء للصهيونية تراجع قليلاً لدى بعض مشاربهم في السنوات الأخيرة، التي تشهد تنامياً في عدد الحريديم الوطنيين ممن يجمعون بين الدين والقومية.
لكن الأغلبية الساحقة من الحريديم تعارض الخدمة العسكرية حتى اليوم، رغم الحرب الأطول والأكثر كلفةً للجانب الإسرائيلي أيضاً، ويرون أن الدرع الحقيقي الحامي لليهود هو التوراة والتمسّك بمضامينها وتعاليمها وحفظها.
سياسياً، وحيال القضية الفلسطينية، ينقسم الحريديم بين مؤيدٍ للتسوية مع الفلسطينيين، وصدرت عن بعض كبار حاخاماتهم، كالحاخام الراحل عوفاديا يوسف، فتاوى تُسوّغ السلام بالقول إن “الإنسان أهم من الأرض”، ويحرّمون زيارة الحرم القدسي الشريف لأسباب دينية وأمنية، مقابل حاخامات يرون عكس ذلك.
وبشكلٍ عام هناك انزياح إلى اليمين في السنوات الأخيرة لدى الحريديم أيضاً.

عبء على الإسرائيليين
على خلفية كل ذلك، يرى قسم كبير من الإسرائيليين أن الحريديم عبءٌ ثقيل وخطير على إسرائيل، ومن شأنه تهديد هويتها ومكانتها ومستقبلها، لا سيما أنهم لا يشاركون في تحمّل الأعباء، لعدم المشاركة في العمل والخدمة العسكرية من جهة، وحيازتهم على مخصّصات وميزانيات تزايدت في الفترة الأخيرة بسبب استغلال حزبيهم حالةَ التعادل بين المعسكرين المتصارعين في إسرائيل على الحكم وابتزازهم للحكومات المتعاقبة، فهم يشكّلون “بيضة القبان” من هذه الناحية.
ويحذّر عدد من المراقبين الإسرائيليين من أن استمرار تهرّب الحريديم من الخدمة العسكرية سيفاقم الخلافات الداخلية القائمة أصلاً، لا سيما الكبيرة منها في الناحية الاجتماعية، والتي سبق أن وصفها رئيس إسرائيل السابق رؤوفين ريفلين، في “خطاب الأسباط” ضمن مؤتمر هرتزليا للمناعة القومية عام 2015، بأنها أخطر من قنبلة إيران.
ويذهب هؤلاء المراقبون إلى ما هو أبعد من هذا التحذير، بالقول إن إسرائيل تتجه لتصبح دولة دينية يهودية، بل “دولة شريعة” كما هو الحال في إيران، الأوساط المنتجة فيها في كافة المجالات أقلية، بينما الأغلبية ستكون مكوّنة من مستهلكين فقط.
ويشبّه بعضهم إسرائيل عندئذٍ بـ”الشاحنة المحمّلة بالأثقال التي يحركها محرك سيارة صغيرة”.
وعلى خلفية تصميم اليهود الحريديم على حسم خلاف الخدمة العسكرية لصالح إعفائهم، كما جاء في اتفاقيتي الائتلاف مع نتنياهو، ورفض المعارضة وقسمٍ من الحكومة، يهدد هذا الخلاف بتفكيكها والذهاب إلى انتخاباتٍ مبكرة، لا سيما أن حزبي الحريديم قد علّقا، منذ شهرين، مشاركتهما في الائتلاف.

زر الذهاب إلى الأعلى