الطبيعة غير الخطية للمعركة ضد الوباء
الخبرة المتراكمة، تثبت أن الأوبئة لا تنتشر، ولا تنحسر، بمعدلات خطية. فالحقيقة المركزية التي تغفل عنها (ولا تبرزها)، الكثير من طرق حساب تحولات الوباء، ورسومها البيانية الملونة في اللوحات الإلكترونية، أن المجتمعات الإنسانية (قبل اختراع الحكومات) طورت آليات طبيعية لمواجهة الأوبئة. كما أن الفيروسات، لديها بنية تسمح لها بالتطور لاختراق المناعة الإنسانية. والعلاقة التي تعكس الصراع المستمر بينهما، غير خطية. فمبقدار ما يتقدم الفيروس، تتعزز مناعة المجتمعات. وبمقدار ما يتراجع الفايروس، تتزايد مخاطر جيل جديد (او جينوم جديد منه) يعيد الهجوم مرة أخرى. فمنذ بدء الخليقة، هناك صراع بين الإنسان والفيروس، واضح أن الذي انتصر في هذا الصراع حتى الآن هو الإنسان. ولنتذكر، أنها التجربة الإنسانية الأولى، التي تحضر فيها الحكومات، لإدارة وتنظيم الصراع بين الإنسان والفيروس.
مهمة الحكومة، مساعدة المجتمع للانتصار على الفيروس، بأقل كلفة إنسانية واقتصادية ممكنة، وليس خوض المعركة نيابة عن المجتمع، (عليها مساعدة الشعب وليس مطالبته بمساعدتها). قيام الحكومة بمهمتها الصحيحة (مساعدة المجتمع وليس خوض المعركة نيابة عنه)، تتطلب تطوير ادوات معرفية (تحليلية وتركيبية في ذات الوقت)، تعكس فهم الحكومة للطبيعة غير الخطية، لما يواجه شعبنا من تحديات ومخاطر. احتواء الوباء يتضمن تحدي معرفي، لا بد من تلبية استحقاقاته، لضمان التكامل بين: الأولويات التي تفرضها الوقائع، والمعادلة السياسية لتوزيع الموارد وتخصيصها. والتطور المعرفي من شأنه تصحيح معادلة العلاقة بين الحكومة والمجتمع، وتمكين شعبنا من السيطرة على كورونا، كما العديد من المخاطر المتوقعة، ذات الطبيعة غير الخطية.
وعلى سبيل المثال، فإن الحجر الصحي، لأوقات طويلة، له تداعيات صحية سلبية. صحيح أنه يساعد على تقليل الضغط على الخدمات الصحية (لمعالجة المصابين بالفايروس)، ولكنه يزيد من معدلات الإصابة بالأمراض الأخرى. ورعاية المصابين بهذه أمراض ستضغط على الخدمات الطبية، ولها أثر لا يقل تدميراً (عن الفيروس) على الاقتصاد ونوعية الحياة. فالحجر الصحي لفترات طويلة يزيد من خطر الإصابة بالعديد من الأمراض، كما أنه يزيد من آثار العديد منها، ويصعب إدارتها ويزيد كلفها. وكما حذرت منظمة الصحة العالمية مؤخراً، فإن فالحجر الصحي، بمقدار ما يساهم في احتواء الفايروس، فإنه يزيد من مخاطر وأعباء أمراض أخرى. وهذا يستدعي تطوير وسائل وحلول ذكية للموازنة بين: متطلبات احتواء الوباء، والمتطلبات الصحية والاقتصادية والإنسانية الأخرى.
مساعدة شعبنا للانتصار ضد الوباء، تتمثل في احتواء الفايروس، وتصغير أثره، بحيث يصبح مثل أي مرض آخر، يدار من خلال الممارسة اليومية والروتينية (بما فيها روتين العمل الطبي)، وضمن قواعد الممارسة الصحية السليمة. لنتذكر أنه ليس كورونا فقط، من تتطلب إدارته نمط حياة مختلف. بل هناك العديد من الامراض، يتم تقليل الضغط على المنظومة الصحية، بنشر ثقافة صحية، وسلوكيات مناسبة، تقلل من فاعلية تلك الامراض، وتمكن من السيطرة عليها. كما أن التوصل إلى نمط حياة جديد يمكن من احتواء الوباء، ليس فقط ضرورة للنصر على كورونا، بل ضرورة لتمكين مجتمعنا من الانتصار على أوبئة قادمة محتملة.
التجربة العالمية تقدم نماذج مختلفة لمواجهة الوباء. حيث تتوارد الاخبار عن دول بدأت بتخفيف إجراءات الحجر، وتستعد لاستئناف الحياة، بتطبيق قواعد «الممارسة المؤهلة» في العديد من القطاعات، بما فيها الجامعات والمدارس. ويمكن القول، بأن التمسك، بالتصورات الخطية الكلاسيكية، وتدعيمها بالرسوم البيانية الملونة، ممارسة تساعد على تقديم خطاب بمفردات جميلة. إلا أن تطوير استجابة ذكية، تمكن شعبنا من احتواء الوباء والانتصار عليه، يتطلب، نموذج فهم غير خطي، يعكس العلاقة الموضوعية بين المجتمع والفيروس.
الدستور - جمال الطاهات