التوحش أداة إسرائيل وهراوتها لـ إدارة الفوضى في الإقليم

عمان1-كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
بخلاف الوعي السائد، لم تعد "إسرائيل" تخشى تفشي الفوضى وعدم الاستقرار في دول الجوار المحيطة، والتي حملت ذات يوم، اسم "دول الطوق"... ولم يعد أمن واستقرار هذه الدول، متطلباً من متطلبات "نظرية الأمن القومي الصهيونية"، كما درجنا، وكثيرون غيرنا، على القول طيلة سنوات وعقود... ربما كانت هذه الفرضية صحيحة غداة نشأة "إسرائيل" وعشية "الانقلابات اليمينية" المتعاقبة بدءاً بالعام 1977، والتي عصفت بهذا الكيان ومجتمعه، ودفعته بتسارع مخيف (خلال العشرين سنة الفائتة بالذات)، صوب أقصى درجات التطرف الديني والقومي، بيد أنها اليوم، لم تعد كذلك، وقد آن أوان إعادة النظر فيما كانت تُعدّ واحدة من مُسلمات الصراع العربي – الإسرائيلي.
صعود اليمين الفاشي في "إسرائيل"، وتفشيه في صفوف النخب السياسية والحزبية، الحاكمة والمعارضة سواء بسواء، واختراقه المستوى السياسي إلى المستوى الأمني والعسكري كما يحدث مؤخراً، وبتسارع لافت أيضاً، بدّل كثيراً في أولويات الأجندة والمرامي العليا لدولة الاحتلال والفصل العنصري والإبادة الجماعية والتطهير العرقي... صارت الفوضى والحروب المتناسلة، شرط بقاء لهذا اليمين الأقصوي، ومتطلباً لإدامة إمساكه بمقاليد السلطة والقرار في "الدولة" العبرية.
هذا اليمين، الذي وضع في قلب أولوياته، تجسيد "حلم إسرائيل الكبرى" من "النهر إلى البحر"، دولة يهودية صافية عرقياً ودينياً (هكذا يُزعم وهكذا يُطمح)، بات يدرك أن طريقه إلى إنفاذ حلمه الأسود، إنما يملي عليه، مقارفة أبشع جرائم التهجير القسري، وتكسير أي مقاومة فلسطينية أو عربية، لبرنامجه التوسعي الاستعماري، وبناء "الهيبة" واستعادة "الهيمنة"، مثل هذه الأهداف لا يمكن إنجازها بوجود دول وحركات مقاومة، مثل هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها، فيما دول الجوار ما زالت تتحدث عن "حل الدولتين"، وترفض التهجير، وتخشى الاتساق والتساوق مع أحلامه السوداء، بما في ذلك، فتح أبوابها لملايين الفلسطينيين الذين قد يُجبَرون على ترك بلداتهم وقراهم ومدنهم ومخيماتهم تحت الاحتلال، بدعاوى حفظ الاستقرار وصون صدقية الأنظمة، والدفاع عن الهوية والكيان الوطنيين.... هذه الطروحات، لا تُستقبَل على نحو حسن في "إسرائيل الجديدة"، سواء صدرت عن طرف "مقاوم" أم "معتدل"، وتل أبيب اليوم، مستعدة لتناصب أصحابها أشد العداء، وإن بعد حين.
وإذ تتزامن تحولات "إسرائيل" وانجرافاتها صوب الفاشية، مع اندلاع موجة صعود عالمية لليمين الشعبوي المتطرف في أوروبا، وبالأخص في الولايات المتحدة، وإذ تترافق مع مسعى "ترامبي" مستميت، لإطالة أمد نظام الهيمنة الأميركية على العالم والتمديد له، حتى وإن اقتضى الأمر، ترك الأدوات الناعمة وتجنب خوض "المباراة الاقتصادية التنافسية"، إلى استخدام أساليب "البلطجة" و"الحمائية الجمركية" واستخدام القوة، والتلويح باحتلال دول بحجم قارات، وفرض "الخاوات" على الأصدقاء قبل الأعداء، وابتزاز أنظمة وحكومات، فإن اليمين الفاشي في إسرائيل، بات يستشعر "فائض قوة"، تمكّنه من استنفاد اللحظة حتى نهاياتها، وعدم التفريط بها، قبل تحقيق أهداف رافقته منذ بدايات تشكله كمشروع استعماري – إحلالي، حتى وإن تطلب الأمر، استخدام أدوات وأساليب أكثر "توحشاً"، طالما أن ثمة من يقف على أهبة الاستعداد، "غبّ الطلب"، لتوفير الحماية والإسناد وشبكات الأمان في كل الميادين والمحافل.
لقد أتقنت "إسرائيل" "إدارة الفوضى" على حدودها طيلة أزيد من عقدين من الزمان... سجلت نجاحات حيناً وإخفاقات أحياناً، بيد أنها راكمت من الخبرة والتجربة، ما يكفي لجعلها أكثر اطمئناناً لقدرتها على إثارة الفوضى وإدارتها، وتجنب ويلاتها وتداعياتها الأكثر سلبية.... حدث ذلك على الجبهة الجنوبية، في غزة مع حماس والجهاد والفصائل المقاومة الأخرى، وفي سيناء زمن "الأصولية الجهادية المتماهية مع بيئة قبلية مواتية"... وحدث طيلة عقدين من احتلالها لجنوب لبنان، وما يقرب من ربع قرن بعد تحريره، ويحدث الآن على الجبهة السورية، بعد رحيل نظام "الأسدين"، وبالرغم من فيض "أوراق الاعتماد" التي ما فتئت الإدارة الجديدة تقدمها لتل أبيب عبر عواصم ومبادرات ورسائل غزل عدة.
أدوات التحكم في الفوضى
ثلاث أدوات اعتمدتها "إسرائيل" في سعيها لإدارة الفوضى في دول الجوار:
أولها؛ دفاعي، داخلي، تجلى في بناء الجدران والأسيجة المتعددة والمتراكبة، "الذكيّة منها والغبيّة"، على طول الحدود مع الدول المشمولة بالفوضى أو المستهدفة فيها، وتوظيف أحدث ما أنتجته تكنولوجيا الرصد والرقابة والإنذار المبكر والرد السريع، وتلكم تجربة تُنسج حولها قصصٌ وحكايات، بعضها صحيح، وبعضها الآخر، يندرج في سياق السعي لـ "بناء صورة ردعية" مُحبِطة ومُخيفة للآخر.
ثانيها؛ الاعتماد على الاتفاقات والمعاهدات المبرمة مع دول مجاورة، والتشديد على البنود التي تُرتب على "الفريق العربي" مسؤوليات أمن الحدود وحمايتها، والتي تكفل بدورها انتشاراً مشروطاً لجيوش هذه الدول في مناطق الحدود (وأحياناً العمق)، من حيث عدد الأفراد ونوعية السلاح، وكثافة التسلح، ووجود مراقبين دوليين على خطوط الفصل وفك الاشتباك، كما في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، واتفاق فك الاشتباك مع سوريا، وبطريقة مغايرة كما في معاهدة وادي عربة.
ثالثهما؛ الاعتماد على مليشيات عميلة، مرتبطة كلياً بالجيش والمخابرات الإسرائيليين، تتولى إدارة مناطق وأشرطة أمنية عازلة، كما كانت عليه الحال في لبنان منذ 1978وحتى "التحرير"، وكما يجري العمل عليه اليوم، في الحالة السورية، من محاولات فرض منطقة عازلة في العمق السوري، منطقة محظورة من السلاح والجيش، والسعي لإنشاء، دعم وتبني، ميليشيات مذهبية وطائفية وعميلة، تتولى زمام الأمر في المحافظات الجنوبية الثلاث.
إدارة الفوضى بنجاح، مهمة غير ممكنة، من دون اتقان فنون "إدارة التوحش"، ومن دون ضمان "الإفلات من العقاب" على الجرائم المقترفة بفعل هذا الاستخدام المفرط، وغير المتناسب للقوة، وغالباً ضد أهدافٍ وأعيانٍ مدنية بالأساس، فالضرب بقسوة على هذه الأهداف الرخوة، لا يُكلّف "إسرائيل" سوى أسعار القنابل الثقيلة المستخدمة فيها، ومن شأنه الضغط على "اليد المجروحة" لقوى المقاومة، حين تُستهدف بيئاتها وحواضنها الشعبية والاجتماعية.
من المفردات التي يعجّ بها قاموس التوحش الإسرائيلي: القصف السجادي والأحزمة النارية، التدمير المنهجي والمنظم للمدن والبلدات والمخيمات، وغالباً فوق رؤوس ساكنيها، قتل العشرات، وأحياناً المئات من المدنيين، من نساء وأطفال وشيوخ يومياً، وإصابة أضعافهم بجروح وإعاقات مزمنة، التجويع ومنع المساعدات والإغاثة، حشر الناس في معسكرات تركيز واعتقال جماعية، التعطيش وقطع مصادر الطاقة بكل أشكالها، قتل الشهود من صحافيين وإعلاميين ورجال دفاع مدني وإنقاذ، استهداف البنى التحتية كما لو كانت قواعد ومستودعات للتدريب والتخزين، جعل الحياة مستحيلة في المناطق المستهدفة، وتحويلها إلى بيئات طاردة لأهلها وغير قابلة للعيش البشري، التهجير القسري، ولا بأس إن جرى "تغليفه" بمفردات من نوع "طوعي" و"اختياري"، إلى غير ما هنالك من وسائل، خجلت النازية من اللجوء إليها، حتى وهي في ذروة عنفوانها.
لا أحد بمنجى
تعميم الفوضى غير البنّاءة وغير الخلاقة، لم يعد وسيلة "إسرائيل" لاستهداف دولٍ مقاومة، أو بلدان حاضنة لمقاومات شعبية مسلحة فحسب، بل صارت تستهدف به كذلك، دولاً محسوبة على الاعتدال ومعسكر السلام ونادي أصدقاء الولايات المتحدة الأميركية... الأردن ينهض شاهداً على هذه الدول المشمولة بسياسة إشاعة الفوضى لليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، وكل اليمين في "إسرائيل" بات اليوم أكثر تطرفاً.
لن تنعم "إسرائيل" بدولة يهودية نقيّة، من النهر إلى البحر، كما في "قانون القومية - 2018" وفي قرارات الكنيست (2025)، من دون تهجير أهل الضفة الغربية، بالقوة الغاشمة، أو باستراتيجية "أقصى الضغوط" لدفعهم إلى عبور النهر، علماً بأن من يخططون لذلك، يدركون تمام الإدراك، أن أمراً كهذا، حال حصوله، سيتسبب بخلق فوضى وعدم استقرار مُقيمين في الأردن، بل هم يأملون أن تسبق الفوضى عمليات الطرد الجماعي لأهل الضفة والقدس، فتكون بذلك مسوغاً ومبرراً لحسم جميع الملفات دفعة واحدة.
الذين ما زالوا يؤمنون بالنظرية القديمة "أمن الأردن واستقراره من أمن إسرائيل واستقرارها"، باتوا أقلية مركونة في أقصى يسار خريطة الأحزاب ونواب الكنيست، وفي بعض المواقع القيادية لمؤسسات الدولة العميقة في "إسرائيل"... أما الكثرة الكاثرة، من قادة أحزاب "إسرائيل" ونوابها وجنرالاتها، فهم أقرب إلى مدرسة "الصهيونية الدينية" حتى وإن لم يكونوا رسمياً، من "المصوّتين" لسموتريتش وحزبه الذي يحمل الاسم ذاته.
"إسرائيل" بدأت تتعامل مع الأردن، بذات "الأدوات" التي تستخدمها عادة لخلق الفوضى وإدارتها في بقية دول الجوار...مشروع "الجدار الحدودي" الذي سمّاه الإعلام العبري "فيلادلفي 2"، أو "فيلادلفي الشرقي"، تخصيص فرقة من الجيش لمواكبة هذا الجدار وتعزيزه، استهداف الأردن بحرب إلكترونية، تقودها "الوحدة 8200" لنشر الشقاق وإنعاش "جدل الهويات" وتعميق انقساماتها، وتأليب الرأي العام الأردني على نظامه السياسي، وبعضه على بعض.
من وجهة نظر هذا الفريق، فإن "أردناً" قوياً، متماسكاً وموحداً، لا يمكن أن يلعب دور "المُستوعَب" لاستقبال فائض الديموغرافيا الفلسطينية، بينما أردن منقسم على ذاته، بدولة ضعيفة، أو بـ"لا دولة"، يُمكِن أن يكون "اسفنجة امتصاص" لقوافل المهجّرين قسراً، ويُمكّن "إسرائيل" من إعادة التشديد على زعمها بأن "الأردن هو فلسطين"، وأن موقفها من مختلف اللاعبين على هذه الساحة، سيتقرر في ضوء مواقفهم من هذه المزاعم.
إذاً، نحن بإزاء إعادة نظر شاملة، في عناصر ومكونات "نظرية الأمن" الإسرائيلية، أملاها "الطوفان" وما بعده من تطورات مذهلة ومتسارعة، وتبدلات عميقة في توازنات القوى وموازينها، وعنوان هذه المرحلة في الاستراتيجية الإسرائيلية، خلق الفوضى، وإدارتها والتحكم فيها، بالاستناد دائماً، إلى "إدارة التوحش" بكل ما في قاموسها من مفردات وأدوات، إلى أن تتعلم "إسرائيل" بالطريقة الصعبة، ذات يوم، قريب أو بعيد، أن تكلفة هذه السياسة أعلى من مردودها عليها، وأن التحكم في ما "لا يمكن التحكم فيه"، سيقلب السحر على الساحر، وإنّ غداً لناظره قريب