ماذا يعني نفاد صبر تركيا تجاه إسرائيل؟

عمان1- كتب سمير العركي:
لم يكن العدوان الإسرائيلي على سوريا يوم السادس عشر من يوليو/تموز الجاري، الأولَ من نوعه، لكنه كان الأعنف شكلًا ومضمونًا، إذ امتدت الغارات الإسرائيلية من السويداء ودرعا إلى دمشق، واستهدفت بشكل مباشر قوات وزارتَي الدفاع والداخلية، إضافة إلى تدمير مبنى هيئة الأركان في العاصمة السورية بشكل كامل تقريبًا.
خسائر الاستهداف الإسرائيلي لم تتوقف عند الأضرار المادية، بل امتدت إلى خسائر بشرية طالت القوات الأمنية على مستوى القادة والأفراد.
لكن كلمة الرئيس السوري، أحمد الشرع، التي بُثّت في وقت مبكر من فجر السابع عشر من يوليو/ تموز، كانت إيذانًا بوضع نقطة النهاية لهذه الجولة من الصراع السوري الإسرائيلي، الذي يبدو أنه بدأ للتو مع انفتاح المستقبل على جميع السيناريوهات.
فالشرع أشار في كلمته أنهم كانوا أمام خيارين، إما "الحرب المفتوحة مع الكيان الإسرائيلي على حساب الدروز وأمنهم وزعزعة استقرار سوريا والمنطقة بأسرها"، وإما "فسح المجال لوجهاء ومشايخ الدروز للعودة إلى رشدهم وتغليب المصلحة الوطنية".
مؤكدًا أنه وحكومته قدموا "مصلحة السوريين على الفوضى والدمار"، فكان "الخيار الأمثل في هذه المرحلة هو اتخاذ قرار دقيق لحماية وحدة الوطن وسلامة أبنائه بناءً على المصلحة الوطنية العليا".
حيث تم اتخاذ القرار بتكليف بعض الفصائل المحلية ومشايخ العقل بمسؤولية حفظ الأمن في السويداء.
الشرع في تعليله للقرار شدّد على أنه "تجنب انزلاق البلاد إلى حرب واسعة جديدة قد تجرّها بعيدًا عن أهدافها الكبرى في التعافي من الحرب المدمرة، وإبعادها عن المصاعب السياسية والاقتصادية التي خلّفها النظام البائد".
لكن وبعيدًا عن حسابات الربح والخسارة، لأنه كما أسلفنا القول فنحن إزاء جولة من حرب بدأت للتو، فإن ما حدث خلال اليومين الماضيين من العدوان الإسرائيلي، سيلقي بظلاله الكثيفة ليس على سوريا وحدها، بل على عموم المنطقة وخاصة تركيا.
فأربعة عشر عامًا من الحرب في سوريا، عرضت تركيا لمخاطر جيوسياسية وأمنية هائلة، اضطرت معها إلى إرسال قواتها إلى الشمال السوري، بدءًا من 2016، لمنع تقسيم سوريا والحيلولة دون منح تنظيم حزب العمال الكردستاني "PKK" ممرًا انفصاليًا يبدأ من القامشلي شرقًا إلى ساحل البحر المتوسط غربًا.
وكان سقوط نظام بشار الأسد يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 انتصارًا إستراتيجيًا عظيمًا ليس لقوات الثورة وحدها، بل لتركيا أيضًا، التي بدأت تستعد لجني ثمار هذا الانتصار على المستويين: الإستراتيجي، والأمني.
لكن ما تفعله إسرائيل بعدوانها، يؤشّر إلى مخاطر جديدة قد تتعرض لها الدولة السورية، لن تتوقف آثارها عليها فقط، بل ستمتد بطبيعة الحال إلى تركيا.
من هنا، فإن الأمر يثير بطبيعته تساؤلات مهمة عن كيفية تعامل أنقرة مع تلك التهديدات الجديدة والجدية، وهل ستقف مكتوفة الأيدي مكتفية بالتنديد الإعلامي والتحركات الدبلوماسية؟ كما تمتد التساؤلات إلى جوهر الإجراءات التي يمكن لتركيا اتخاذها لمواجهة تداعيات التغول الإسرائيلي على سوريا والمنطقة بأسرها.
نفاد الصبر التركي
جاءت تصريحات وزير الخارجية، هاكان فيدان، محمّلة بغضب تركي واضح، إذ قال معلقًا على الاعتداء الإسرائيلي على سوريا:
"لقد نفد صبرنا، هذا كل ما سنتحدث عنه مع إسرائيل، فهي لا تريد السلام".
لكن ما معنى نفاد الصبر التركي؟
من المعلوم أنه ومنذ اندلاع طوفان الأقصى، وما نشهده من اعتداءات وحشية إسرائيلية على غزة، وبدرجة أقل على لبنان وسوريا (في زمن نظام بشار الأسد إلى الآن)، وعلى إيران مؤخرًا، فإن التقديرات التركية أن نار هذه الحرب قد تمتد إليها يومًا ما.
فالتصريحات الرسمية والحزبية، خاصة الصادرة من الرئيس، رجب طيب أردوغان، ورئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، تشير بوضوح إلى إمكانية اندلاع مواجهات تركية إسرائيلية في أي وقت.
بل إن هذا التخوف كان أحد أهم الأسباب التي دفعت بهتشلي، أواخر العام الماضي، إلى إطلاق مبادرته لجعل تركيا خالية من الإرهاب، والتي تُوجت بإعلان حزب العمال حلّ نفسه، والبدء في تسليم أسلحته، وذلك من أجل توحيد الجبهة الداخلية.
هذه المناقشات امتدت إلى أطروحات كتّاب وصحفيين أتراك محافظين وقوميين، كما يمكن تتبعها على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال المحتوى الذي ينشره ناشطون ومؤثرون أتراك.
والحاصل أن هناك قناعة داخل تركيا بأن خيار الحرب مع إسرائيل قد يحدث في أي لحظة، لكنها في الوقت ذاته تعمل على تفاديه أو تأخيره قدر المستطاع.
فوزير الخارجية التركي، حذر في تصريحات صحفية من السياسات الإسرائيلية، مؤكدًا أنها ستؤدي إلى إلقاء "الجميع في النار"، بما فيهم إسرائيل.
مطالبًا المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول المنطقة، بإظهار حساسية بالغة ووضع حد للتصرفات الإسرائيلية، وإلا "فمن المؤكد أن عواقب وخيمة ستظهر في المنطقة"، وذلك حسب تعبير فيدان.
وإذا ما لجأنا إلى تحليل مضمون هذا الخطاب، فنحن إزاء عبارات تم اختيارها بعناية ("نفاد الصبر"- "وقوع الجميع في النار"- "العواقب الوخيمة")، وهي بمثابة رسالة تحذير قوية من قبل أنقرة للمجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، للتحرك قبل فوات الأوان ووقوع المنطقة كلها في الفوضى، وذلك بإيقاف التصعيد الإسرائيلي الجامح، الذي كان من المستحيل حدوثه واتساع نطاقه لولا الدعم اللامحدود من واشنطن والعواصم الأوروبية.
البدائل التركية
لا أبالغ إذا قلت إن تركيا تعيش وضعًا إستراتيجيًا صعبًا وحساسًا، في وقت كانت تحتاج فيه إلى تبريد الجبهة السورية لعدة سنوات، وعدم الصدام مع الولايات المتحدة ريثما تنتهي فترة ولاية الرئيس، دونالد ترامب، وذلك لتفكيك عدد من الملفات الخلافية، أهمها إنهاء العقوبات الأميركية ضد تركيا، وإعادة أنقرة مجددًا إلى برنامج طائرة "إف-35″، وغلق ملف حزب العمال تمامًا، إضافة إلى تطوير ملف العلاقات الاقتصادية وزيادة حجم التبادل التجاري.
لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وفرضت سياسات نتنياهو التوسعية والعدوانية تحديات كبيرة أمام صانع القرار في أنقرة.
إذ يمثل أي انفراط محتمل لعقد الدولة السورية، تهديدًا مباشرًا للأمن القومي في الأناضول، بل وسيسمع صداه في العواصم الأوروبية، كما حدث في سنوات الحرب الأربع عشرة الماضية.
من هنا، فإن تركيا تحتاج- في تقديري- إلى عدد من الإجراءات ذات الطابع الإستراتيجي، وأهمها:
أولًا: بناء موقف موحد مع دول المنطقة، خاصة أن دول المنطقة تمتلك من أدوات التأثير العالمية ما يمكنها من إحداث ضغوط حقيقية على الولايات المتحدة وأوروبا، وأهمها سلاح الطاقة والتمويل المالي، إضافة إلى تحكم هذه الدول في العديد من الممرات الملاحية وطرق التجارة العالمية.
وتصريحات فيدان في هذا الصدد تشير إلى إدراك أنقرة أهمية هذا التحرك المشترك، إذ قال: "نجتمع مع الأردن والسعودية والأميركيين. نجتمع ونُجري تقييمات جدية، يجب على الأطراف إدراك الصعوبات التي سيسببها هذا (نتنياهو) للمنطقة".
فعقب العدوان الإسرائيلي على إيران، سارعت تركيا إلى عقد اجتماع لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، واليوم تحتاج سوريا إلى إظهار مثل هذا التضامن، الذي هو في حقيقته رسالة دعم غير مباشرة للأمن القومي التركي.
ثانيًا: مسارعة تركيا لإنهاء ملف قوات سوريا الديمقراطية "قسَد"، فوجود هذه القوات الانفصالية على الحدود السورية التركية، يمثل شوكة في خاصرة الأمن القومي التركي، خاصة في ظل تواصلها الوثيق مع تل أبيب، التي تحاول تدشين ممر آمن يمتد من جنوب سوريا إلى شمال شرقها، لتمويل ودعم "قسد".
خطورة هذه المليشيات تكمن في دعمها التحركات الانفصالية داخل سوريا، كما حدث في أحداث السويداء الأخيرة، وكما تابعناها في أحداث الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي، ومن ناحية أخرى تحاول كسب الوقت ريثما تنتهي ولاية ترامب، ودخول إدارة جديدة البيت الأبيض، ربما تكون من الديمقراطيين، الذين يرتبطون معها بعلاقات أشد موثوقية، خاصة أن علاقة الإدارات الديمقراطية بتركيا كثيرًا ما يشوبها التوتر وعدم الانسجام.
كل هذا تدركه تركيا بوضوح، لذا كانت تحذيرات فيدان لهم قوية وواضحة، إذ قال: "هناك شائعاتٌ أيضًا عن انخراط وحدات حماية الشعب (الكردية)، في أنشطةٍ ما. رسالتنا لهم هي توخي الحذر، وعدم استغلال الاضطرابات وتعقيد العملية الحرجة والحساسة في سوريا أكثر، والاضطلاع بدورٍ متسقٍ وبنّاء، وإلا فإن الانتهازية تحمل معها مخاطرةً كبيرة".
وإذا كانت تركيا تأمل أن تكون تلك المجموعات "السورية" جزءًا من عملية الحل مع حزب العمال، وذلك بإعلان حل نفسها وإلقاء السلاح، فإنها تدرك في الوقت ذاته أنها قد تضطر إلى إنهاء الملف بنفسها، أو بتعاون مشترك مع القوات الحكومية السورية.
ثالثًا: الارتباط مع الدولة السورية باتفاقية دفاع مشترك، تسمح لتركيا بالوجود الشرعي لقواتها، كما تمنحها حقوق إعادة تأهيل وتدريب الجيش السوري.
فرغم كثرة الحديث عن مثل هذه الاتفاقية منذ سقوط نظام بشار الأسد، لكن يبدو أن ثمة "حساسيات" و"حسابات" إقليمية حالت دون إنفاذها حتى اللحظة.
لكن العدوان الإسرائيلي على سوريا، أبان بوضوح الحاجة إلى هذه الاتفاقية، ليس لحماية سوريا ومقدراتها فقط، بل لضمان استتباب الأمن القومي التركي أيضًا.
والخلاصة
أن العدوان الإسرائيلي مؤخرًا على سوريا، هو بمثابة إنذار مبكر لتركيا لاتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة؛ تحسبًا لأي مواجهة مع إسرائيل قد تندلع فجأة.